كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)}.
قوله: {وَيُثَبِّتْ}: قرأه العامَّةُ مُشَدَّدًا. ورُوي عن عاصم تخفيفُه مِنْ أَثْبَتَ.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)}.
قوله: {والذين كَفَرُواْ}: يجوز أَنْ يكونَ مبتدأ. والخبرُ محذوفٌ. تقديره: فَتَعِسُوا وأُتْعِسُوا. يَدُلُّ عليه {فَتَعْسًا} فتعسًا منصوبٌ بالخبرِ. ودَخَلَتِ الفاءُ تشبيهًا للمبتدأ بالشرط. وقدَّرَ الزمخشري الفعلَ الناصبَ لـ: {تَعْسًا} فقال: لأن المعنى: فقال تعسًا أي: فقضى تَعْسًا لهم. قال الشيخ: وإضمارُ ما هو من لفظِ المصدر أولى.
والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر يُفَسِّره {فتَعْسًا لهم} كما تقول: زيدًا جَدْعًا له. كذا قال الشيخ تابِعًا للزمخشريِّ. وهذا لا يجوزُ لأن {لهم} لا يتعلَّقُ بـ: {تَعْسًا}. إنما هو متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه بيانٌ أي: أعني لهم: وقد تقدَّم تحقيقُ هذا والاستدلالُ عليه. فإنْ عَنَيا إضمارًا مِنْ حيث مطلقُ الدلالةِ لا من جهةِ الاشتغالِ فَمُسَلَّمٌ. ولكن تَأْباه عبارتُهما وهي قولهما: منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسره {فَتَعْسًا لهم}. و{أَضَلَّ} عطفٌ على ذلك الفعل المقدرِ أي: أتعسَهُم وأضلَّ أعمالهم. والتَّعْسُ: ضدُّ السَّعْدِ يقال: تَعَسَ الرجلُ بالفتح تَعْسًا وأَتْعَسَهَ اللَّهُ. قال مجمِّع:
تقول وقد أَفْرَدْتُها مِنْ حَليلِها ** تَعِسْتَ كما أَتْعَسْتَني يا مُجَمِّعُ

وقيل: تعِس بالكسرِ. عن أبي الهيثم وشَمِر وغيرِهما. وعن أبي عبيدة: تَعَسَه وأَتْعَسَه متعدِّيان فهما مما اتَّفَق فيهما فَعَل وأَفْعَل وقيل: التَّعْسُ ضدُّ الأنتعاش. قال الزمخشري: وتَعْسًا له نقيض لَعَا له يعني أنَّ كلمةَ لَعا بمعنى انتعش. قال الأعشى:
بذاتِ لَوْثٍ عَفَرْناةٍ إذا عَثَرَتْ ** فالتَّعْسُ أَدْنى لها مِنْ أَنْ أقول لَعَا

وقيل: التَّعْسُ الهَلاك. وقيل: التَّعْسُ الجَرُّ على الوجهِ. والنَّكْسُ الجرُّ على الرأس.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)}.
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ}: يجوزُ أَنْ يكونَ {ذلك} مبتدأ. والخبرُ الجارُّ بعدَه. أو خبر مبتدأ مضمرٍ. أي: الأمرُ ذلك بسبب أنهم كَرهوا. أو منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ أي: فَعَل بهم ذلك بسببِ أنَّهم كَرِهوا. فالجارُّ في الوجهَيْن الأخيرَيْن منصوبُ المحلِّ.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وللْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)}.
قوله: {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ}: يجوزُ أَنْ يكونَ حَذَفَ مفعوله أي: أهلك اللَّهُ بيوتَهم وخَرَّبها عليهم. أو يضَمَّنَ {دَمَّر} معنى: سَخِط اللَّهُ عليهم بالتدمير.
قوله: {أمثالُها} أي: أمثال العاقبةِ المتقدِّمة. وقيل: أمثال العقوبة. وقيل: التَّدْميرة. وقيل: الهَلَكة. والأول أولى لتقدُّم ما يعودُ عليه الضميرُ صريحًا مع صحةِ معناه.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مولى الَّذِينَ آمنوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مولى لَهُمْ (11)}.
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ}: كقوله فيما تقدَّم. والولي هنا: الناصِرُ.
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)}.
قوله: {كَمَا تَأْكُلُ الأنعام}: إمَّا حالٌ مِنْ ضميرِ المصدرِ أي: يأْكلوا الأكلَ مُشْبِهًا أَكْلَ الأنعام. وإمَّا نعتٌ لمصدرٍ أي: أكلًا مثلَ أكلِ الأنعامِ.
قوله: {والنار مَثْوًى لَّهُمْ} يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ استئنافًا. ويجوزُ أَنْ تكونَ حالًا. ولكنها مقدرةٌ أي: يأكلون مُقَدَّرًا ثَوِيُّهم في النار.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)}.
قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} يريد أهلَ قريةٍ. ولذلك راعى هذا المقدَّرَ في {أَهْلَكْناهم} {فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ} بعد ما راعى المضافَ في قوله: {هي أشدُّ} والجملةُ مِنْ {هي أشدُّ} صفةٌ لقرية. وقال ابنُ عطية: نَسَبَ الآخراجَ للقرية. حَمْلًا على اللفظِ. وقال: {أهلكناهم} حَمْلًا على المعنى. قال الشيخ: وظاهرُ هذا الكلامِ لا يَصِحُّ؛ لأن الضميرَ في {أهلكناهم} ليس عائدًا على المضافِ إلى القرية التي أَسْنَدَ إليها الآخراجَ. بل على أهلِ القرية. في قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} [فإنْ كان أرادَ بقوله: حَمْلًا على المعنى أي: معنى القرية مِنْ قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ}] فهو صحيحٌ. لكنَّ ظاهرَ قوله: حَمْلًا على اللفظِ وحَمْلًا على المعنى أَنْ يكونَ في مدلو ل واحدٍ. وكان على هذا يَبْقى {كَأَيِّنْ} مُفْلَتًا غيرَ مُحَدَّثٍ عنه بشيء. إلاَّ أَنْ يُتَخَيَّلَ أنَّ {هي أشدُّ} خبرٌ عنه. والظاهرُ أنَّه صفةٌ لـ: قرية. قلت: وابن عطيةَ إنما أراد لفظَ القريةِ مِنْ حيث الجملةُ لا من حيث التعيينُ.
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهواءَهُمْ (14)}.
قوله: {أَفَمَن كَانَ}: مبتدأٌ. والخبر {كَمَنْ زُيِّنَ}. وحُمِل على لفظ {مَنْ} فأُفْرِدَ في قوله: {لَهُ سواء عَمَلِهِ} وعلى المعنى فجُمِعَ في قوله: {واتبعوا أَهواءَهُمْ}. والجملةُ مِنْ {اتَّبعوا} عطفٌ على {زُيِّنَ} فهو صلةٌ.
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسن وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ولهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هو خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)}.
قوله: {مَّثَلُ الجنة}: فيه أوجهٌ. أحدها: أنه مبتدأٌ. وخبرُه مقدرٌ. فقدَّره النضر بن شميل: مثلُ الجنةِ ما تَسْمعون. فـ: ما تَسْمعون خبرُه. و{فيها أنهارٌ} مُفَسِّرٌ له. وقَدَّره سيبويه: فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الجنة. والجملةُ بعدَها أيضًا مُفَسِّرةٌ للمَثل. الثاني: أن {مَثَل} زائدةٌ تقديرُه: الجنة التي وُعِدَ المتقون فيها أنهارٌ. ونظيرُ زيادةِ {مَثَل} هنا زيادةُ اسم في قوله:
إلى الحول ثم اسْمُ السَّلامِ عليكما

الثالث: أنَّ {مَثَل الجنة} مبتدأٌ. والخبر قوله: {فيها أنهارٌ}. وهذا ينبغي أَنْ يمتنعَ؛ إذ لا عائدَ من الجملةِ إلى المبتدأ. ولا ينْفَعُ كونُ الضميرِ عائدًا على ما أُضيف إليه المبتدأ. الرابع: أنَّ {مَثَل الجنة} مبتدأٌ. خبرُه {كَمَنْ هو خَالِدٌ فِي النار}. فقَدَّره ابنُ عطية: أمَثَلُ أهلِ الجنة كمَنْ هو خالدٌ. فقدَّر حرفَ الأنكارِ ومضافًا ليصِحَّ. وقدَّره الزمخشري: أَمَثَلُ الجنةِ كمَثَلِ جزاءِ مَنْ هو خالدٌ. والجملةُ مِنْ قوله: {فيها أنهارٌ} على هذا فيها ثلاثةُ أوجهٍ. أحدها: هي حالٌ من الجنة أي: مستقرَّةٌ فيها أنهارٌ. الثاني: أنها خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ أي: هي فيها أنهارٌ. كأنَّ قائلًا قال: ما مَثَلُها؟ فقيل: فيها أنهار. الثالث: أَنْ تكونَ تكريرًا للصلة؛ لأنها في حكمِها ألا ترى إلى أنَّه يَصِحُّ قولك: التي فيها أنهار. وإنما عَرِيَ قوله: {مَثَلُ الجنةِ} من حرفِ الأنكار تصويرًا لمكابرةِ مَنْ يُسَوِّي بين المُسْتَمْسِكِ بالبيِّنَةِ وبين التابِع هواه كمَنْ يُسَوِّي بين الجنة التي صفتُها كيتَ وكيتَ. وبين النارِ التي صفتُها أَنْ يُسْقَى أهلُها الحميمَ. ونظيرُه قول القائلِ:
أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ وأَنْ ** أو رثَ ذَوْدًا شَصائِصًا نَبْلا

هوكلامٌ مُنْكِرٌ للفرح برُزْئِه الكرامَ ووراثةِ الذَّوْدِ. مع تَعَرِّيه من حرف الأنكارِ. ذكر ذلك كلَّه الزمخشريُّ بأطو ل مِنْ هذه العبارةِ.
وقرأ عليُّ بن أبي طالب {مثالَ الجنةِ}. وعنه أيضًا وعن ابن عباس وابن مسعود {أمثالُ} بالجمع.
قوله: {آسن} قرأ ابنُ كثير {أَسِنٍ} بزنة حَذِرٍ وهو اسمُ فاعلٍ مِنْ أَسِنَ بالكسرِ يَأْسَنُ. فهو أَسِنٌ كـ: حَذِرَ يَحْذَر فهو حَذِرٌ. والباقون {آسن} بزنةِ ضارِب مِنْ أَسَنَ بالفتح يَأْسِن. يقال: أَسَن الماءُ بالفتح يَأْسِن ويَأْسُن بالكسرِ والضمِّ أُسُوْنًا. كذا ذكره ثعلب في فصيحه. وقال اليزيدي: يقال: أَسِن بالكسرِ يَأْسَنُ بالفتح أَسَنًا أي: تَغَيَّر طعمُه. وأمَّا أسِن الرجلُ- إذا دَخَل بئرًا فأصابه مِنْ ريحِها ما جعل في رأسِه دُوارًا- فأَسِن بالكسرِ فقط.
قال الشاعر:
قد أترُكُ القِرْن مُصْفَرًَّا أنامِلُه ** يَميد في الرُّمْح مَيْدَ المائِح الأَسِنِ

وقرئ {يَسِنٍ} بالياء بدلَ الهمزةِ. قال أبو علي: هو تَخفيفُ أَسِنٍ وهو تخفيفٌ غريبٌ.
قوله: {لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} صفةٌ لـ: {لبنٍ}. قوله: {لذة} يجوز أَنْ يكونَ تأنيثَ لَذّ. ولذٌّ بمعنى لذيذ. ولا تأويلَ على هذا. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدرًا وُصِفَ به. وفيه التأويلاتُ المشهورةُ. والعامَّةُ على جرِّ {لَذَّةٍ} صفةً لـ: {خَمْرٍ} وقرئ بالنصب على المفعول له. وهي تؤيِّدُ المصدريةَ في قراءة العامَّةِ. وبالرفع صفةً لـ: {أنهارٌ}. ولم تُجْمَعْ لأنها مصدرٌ إنْ قيلَ به. وإنْ لا فلانها صفةٌ لجمعٍ غيرِ عاقلٍ. وهو يُعامَلُ معاملةَ المؤنثةِ الواحدةِ.
قوله: {مِنْ عَسَلٍ} نقلوا في {عَسَل} التذكيرَ والتأنيثَ. وجاء القرآن على التذكيرِ في قوله: {مُصَفَّى}.
والعَسَلان: العَدْوُ. وأكثرُ استعمالِه في الذئبِ. يقال: عَسَل الذئبُ والثعلبُ. وأصلُه مِنْ عَسَلأن الرُّمح وهو اهتزازُه. فكأنَّ العادِيَ يهزُّ أعضاءَه ويُحَرِّكها قال الشاعر:
لَدْنٌ بِهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتْنُه ** فيه كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ

وكُنِي بالعُسَيْلة عن الجماعِ لِما بينهما. قال عليه السلام: «حتى تَذوقي عُسَيْلَتَه ويذوقَ عُسَيْلَتَك». قوله: {مِن كُلِّ الثمرات} فيها وجهان. أحدهما: أن هذا الجارَّ صفةٌ لمقدرٍ. ذلك المقدَّرُ مبتدأٌ. وخبرُه الجارُّ قبلَه وهو {لهم}. و{فيها} متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به. والتقديرُ: ولهم فيها زوجان مِنْ كلِّ الثمراتِ. كأنه انَتَزَعَه مِنْ قوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] وقَدَّره بعضُهم: صِنْفٌ. والأول أليقُ. والثاني: أن: {مِنْ} مزيدةٌ في المبتدأ.
قوله: {ومَغْفِرَةٌ} فيه وجهان. أحدُهما: أنه عطفٌ على ذلك المقدر لا بقَيْدِ كونِه في الجنة أي: ولهم مغفرةٌ. لأن المغفرةَ تكون قبلَ دخول الجنة أوبُعَيْدَ ذلك. ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ حينئذٍ أي: ونعيمُ مغفرةٍ؛ لأنه ناشِئٌ عن المغفرةِ. وهو في الجنة.
والثاني: أن يُجْعَلَ خبرُها مقدَّرًا أي: ولهم مغفرةٌ. والجملةُ مستأنفةٌ. والفرقُ بين الوجهَيْنِ: أنَّ الوجهَ الذي قبل هذا فيه الإِخبارُ بـ: {لهم} الملفوظِ به عن سَنَنِ ذلك المحذوف. و{مغفرةٌ}. وفي الوجه الآخر الخبر جارٌّ آخر. حُذِفَ للدلالةِ عليه.
قوله: {كمَنْ هو} قد تقدَّم أنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ خبرًا عن {مَثَلُ الجنة} بالتأويلَيْن المذكورَيْن عن ابنِ عطيةَ والزمخشريِّ. وأمَّا إذا لم نجعَلْه خبرًا عن {مَثَلُ} ففيه أربعةُ أوجهٍ. أحدها: أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: أحال هؤلاء المتَّقين كحالِ مَنْ هو خالدٌ. وهذا تأويلٌ صحيحٌ. وذكر فيه أبو البقاء الأوجهَ الباقيةَ وقال: وهو في موضعِ رفعٍ أي: حالُهم كحالِ مَنْ هو خالدٌ في النارِ.
وقيل: هو استهزاءٌ بهم. وقيل: هو على معنى الاستفهامِ. أي: أكمَنْ هو خالدٌ. وقيل: في موضعِ نصبٍ أي: يُشْبِهون حالَ مَنْ هو خالدٌ في النار انتهى.
معنَى قوله: وقيل هو استهزاءٌ أي: أن الإِخبار بقولك: حالُهم كحالِ مَنْ. على سبيلِ الاستهزاءِ والتهكُّمِ.
قوله: {وسُقُوا} عطفٌ على الصلةِ. عَطَفَ فعليةً على اسمية. لكنه راعى في الأول لفظ {مَنْ} فأَفْرَدَ. وفي الثانيةِ معناها فجَمَعَ.
والأَمْعاءُ: جمع مِعىً بالقصرِ. وهو المُصْرانُ الذي في البطن وقد وُصِفَ بالجمع في قوله:
.............. ** ومِعَىً جياعا

على إرادةِ الجنسِ. وألفُه عن ياءٍ بدليلِ قولهم: مِعَيان.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قال آنفًا أولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهواءَهُمْ (16)}.
قوله: {آنفًا}: فيه وجهان. أحدهما: أنه منصوبٌ على الحالِ. فقدَّره أبو البقاء: {ماذا قال مُؤْتَنِفا}. وقَدَّره غيرُه: مُبْتَدِئًا أي: ما القول الذي ائْتَنَفه الأن قبلَ انفصالِه عنه. والثاني: أنه منصوبٌ على الظرفِ أي: ماذا قال الساعةَ. قاله الزمخشري. وأنكره الشيخ قال: لأنا لم نعلَمْ أحدًا عَدَّه من الظروف. واختلفَتْ عبارتُهم في معناه: فظاهرُ عبارةِ الزمخشري أنه ظرفٌ حاليٌّ كـ: الأن. ولذلك فَسَّره بالساعة. وقال ابن عطية: والمفسِّرون يقولون: آنفًا معناه الساعةُ الماضيةُ القريبةُ منَّا وهذا تفسيرٌ بالمعنى.
وقرأ البزيُّ بخلافٍ عنه {أَنِفًا} بالقصرِ. والباقون بالمدِّ. وهما لغتان بمعنىً واحدٍ. وهما اسما فاعِل كـ: حاذِر وحَذِر. واسِن وأَسِن. إلاَّ أنَّه لم يُسْتعمل لهما فِعْلٌ مجردٌ. بل المستعملُ ائْتَنَفَ يَأْتَنِفُ. واسْتَأْنف يَسْتأنف. والائْتِنافُ والاسْتِئْناف: الابتداء. قال الزجَّاج: هو من اسْتَأْنَفْتُ الشيءَ إذا ابتدَأْتَه أي: ماذا قال في أول وقتٍ يَقْرُب مِنَّا.
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وآتاهم تَقْوَاهُمْ (17)}.
قوله: {والذين اهتدوا}: يجوزُ فيه الرفعُ بالابتداءِ. والنصبُ على الاشتغالِ. و{تَقْواهم} مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. والضمير في {اتاهم} يعودُ على اللَّهِ أو على قول المنافقين؛ لأن قولهم ذلك مِمَّا يزيدُ المؤمنينَ تقوى. أو على الرسول.
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)}.
قوله: {أَن تَأْتِيَهُمْ}: بدلٌ من الساعة بدلُ اشتمالٍ. وقرأ أبو جعفر الرؤاسي: {إنْ تَأْتِهم} بـ: إنْ الشرطيةِ. وجزمِ ما بعدها. وفي جوابِها وجهان. أحدهما: أنَّه قوله: {فأنَّى لهم} قاله الزمخشريُّ. ثم قال: فإنْ قلت: بِمَ يتصلُ قوله: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} على القراءتين؟ قلت: بإتيان السَّاعةِ. اتصالَ العلةِ بالمعلول كقولك: إنْ أكرَمَني زيدٌ فأنا حقيقٌ بالإِكرامِ أُكْرِمْه.
والثاني: أنَّ الجوابَ قوله: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}. وإتيانُ الساعةِ. وإنْ كان متحققًا. إلاَّ أنهم عُوْمِلوا مُعاملةَ الشاكِّ. وحالُهم كانت كذا.
والأَشْراط: جمع شَرْط بسكونِ الراءِ وفتحِها. قال أبو الأسود:
فإن كنتِ قد أَزْمَعْتِ بالصَّرْمِ بَيْنَنَا ** فقد جَعَلَتْ أَشْراطُ أوله تَبْدو

والأشراطُ: العلاماتُ. ومنه أَشْراط الساعةِ. وأَشْرَطَ الرجلُ نفسَه أي: ألزمها أمورًا. قال أوس:
فأَشْرَطَ فيها نَفْسَه وهو مُعْصِمٌ ** فأَلْقَى بأسبابٍ له وتَوَكَّلا

والشَّرْطُ: القَطْعُ أيضًا. مصدرُ شَرَطَ الجلدَ يَشْرِطُه (يَشْرُطُه) شَرْطًا.
قوله: {فَأَنَّى لهم} {أنَّى} خبرٌ مقدمٌ و{ذِكْراهم} مبتدأٌ مؤخرٌ أي: أنَّى لهم التذكيرُ. وإذا وما بعدها معترضٌ وجوابُها محذوفٌ أي: كيف لهم التذكيرُ إذا جاءَتْهم الساعةُ؟ فيكف يتذكَّرون؟ ويجوز أن يكونَ المبتدأُ محذوفًا أي: أنَّى لهم الخَلاصُ. ويكون {ذِكْراهم} فاعلًا بـ: {جاءَتْهم}.
وقرأ أبو عمرو في رواية {بَغَتَّةً} بفتح الغينِ وتشديدِ التاء. وهي صفةٌ. فنصبُها على الحال. ولا نظيرَ لها في الصفات ولا في المصادر. وإنما هي في الأسماء نحو: الجَرَبَّة للجماعةِ. والشَّرَبَّة للمكان. قال الزمخشري: ما أَخْوَفني أن تكونَ غَلْطَةً من الراوي عن أبي عمرو. وأَنْ يكونَ الصوابُ {بَغَتَةً} بالفتح دون تشديد.
{وَيَقول الَّذِينَ آمنوا لولا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأولى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقول مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فلو صدقوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)}.
قوله: {لولا نُزِّلَتْ}: هذه بمعنى: هَلاَّ. ولا التفاتَ إلى قول بعضِهم: إنَّ (لا) زائدةٌ والأصلُ: لونُزِّلَتْ. والعامَّةُ على رفع {سورةٌ مُحْكَمَةٌ} لقيامِها مقامَ الفاعل. وزيد بن علي بالنصبِ فيهما على الحالِ والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ السورة المتقدمةِ. وسوَّغ وقوع الحال كذا وَصْفُها كقولك: الرجل جاءني رجلًا صالحًا. وقرئ: {فَإِذَا نَزَلَتْ سُورَةٌ}. وقرأ زيدُ بن علي وابن عمير {وذَكَرَ} مبنيًا للفاعل أي: اللَّه تعالى.